بين جدران الطوارئ… كنت أحاول النجاة

قبل العيد بأيام، كنت أعيش بنصف طاقة، أنفاسي أضيق من المعتاد، لكنني – كعادتي – أقاوم، أحاول أن أبدو بخير. كنت أعرف أن المناعة في الحضيض، بل أكثر من ذلك… كنت أعلم أنها وصلت إلى صفر، إلى المرحلة التي لا يحميك فيها شيء من أي عدوى، حتى الهواء قد يصبح تهديدًا. ومع ذلك، كنت أُكابر بصمت، أمارس يومي كأن شيئًا لم يتغير، أو كأنني أريد إقناع نفسي بأن الجسد ما زال يحتمل.
ثم جاءت الحرارة.
ارتفعت فجأة، مثل ضوء أحمر يومض في لوحة العدادات، يعلن بداية حالة استثنائية. شعرت بها تتسلل، ليست حرارة عادية، ليست التي تتعب وتنام بعدها. هذه مختلفة، تعرفها أجسادنا عندما تمر بالمرحلة التي لا تحمي فيها خلايا الدم البيضاء أحدًا. هذه حرارة لا تأتي وحدها، بل تأتي وتطرق باب الخطر، وتفتحه دون إذن.
أتذكر تمامًا، أنني لم أكن مذعورًا، بل كنت ساكنًا، صامتًا، أعرف ما يجب أن أفعله. قمت بهدوء، حملت أوراقي، ذهبت إلى الطوارئ. وصلت كأنني داخل عيادة روتينية، لا وجع ظاهر، لا انهيار، لا صراخ. فقط أنا والورق، والحرارة التي ترتفع، والخوف الذي ينهشني من الداخل رغم هذا الهدوء الظاهري.
دخلت الاستقبال، وقفت أمام الموظف، وقلت بصوت منخفض:
“حرارتي مرتفعة… وآخر تحليل قبل يومين، المناعة صفر.”
رفع رأسه بهدوء، طلب رقم الملف، فتحه، قرأ الأرقام.
لحظة صمت قصيرة… ثم حدث الانفجار.
لم تمر أكثر من ثلاثين ثانية حتى بدأ الركض.
الممرضات يتحركن بسرعة، الاتصالات تبدأ، الأجهزة تُحضّر، الأطباء يصلون، أحدهم يقول: “احجزوا سريرًا، الآن”، والثاني ينادي: “نحتاج مضادات قوية، زراعات، تحاليل شاملة”، والثالث يسألني: “متى بدأت الحرارة؟ كيف تشعر؟ هل تستطيع الوقوف؟”
في لحظة واحدة، تحوّلت من رجل يحاول السيطرة على حرارته… إلى حالة طوارئ من المستوى الثاني.
والمعنى؟
“حياة هذا المريض في خطر حقيقي.”
وُضعت على سرير الطوارئ، ليس سريرًا حقيقيًا كما يُتوقع، بل لوح بلا وسادة، بلا دفء، بلا معنى.
الوجوه تتغير، الأجهزة تُوصل، الدم يُسحب، السوائل تُحقن، والأسئلة لا تنتهي.
لم أكن أتكلم كثيرًا، فقط أراقب.
أراقب بعين مفتوحة، وقلب مغلق على خوف لا أستطيع وصفه.
كنت هناك جسديًا، لكن روحي كانت في مكان آخر، تحاول أن تتشبث بأي طمأنينة، بأي علامة تقول لي: “أنت بخير… ما زال هناك وقت.”
مرت الساعات، ولم يكن هناك سرير شاغر في المستشفى.
بقيت في قسم الطوارئ يومًا… ثم يومين… ثم أيام لا أذكر عددها.
النوم؟ مستحيل. الإضاءة لا تطفأ، الأصوات لا تسكن، أجساد تتحرك من حولك دون توقف.
وجعي؟ لم يكن فقط في رأسي أو دمي أو عظامي، بل في هذه الوحدة التي لا تُحتمل، في هذا الشعور بأنك وسط زحام لا يسمعك فيه أحد.
كلما دقّ جرس جهاز، كلما ارتفعت نغمة المراقبة، كلما مشى أحد بجانبي… كنت أفتح عيني سريعًا، لا لأنني خائف فقط، بل لأنني فقدت القدرة على الاطمئنان.
في كل ليلة، كنت أسمع مريضًا جديدًا يدخل، ممرضة تهمس بشيء، طبيب يتحدث بنبرة طارئة، وأنا… كنت أقاوم فكرة واحدة:
“هل سأخرج من هنا قبل العيد؟”
بين تحاليل تهبط، مناعة صفر، صفائح تتدهور، دوخة، غثيان، إرهاق لا يشبه شيئًا مما شعرت به من قبل، كنت أحاول أن أتمسك بصورة واحدة: صورة ولدي وهو يضحك في صبيحة العيد، وأنا أضع له الثوب الجديد، أضمّه، وأقول له: “كل عام وأنت بخير يا بابا.” لكن هذه الصورة، في ظل هذا البرد، وهذه الأجهزة، وهذه الحقن… بدت بعيدة جدًا.
في مكان آخر، كانت الحياة تستعد للعيد.
الناس يشترون الهدايا، يرسلون التهاني، يتحدثون عن أول يوم وأين سيقضونه.
أما أنا، فكنت أعدّ الساعات بناءً على مواعيد المضادات الحيوية.
الساعة 6 مساءً؟ وقت الجرعة الأولى.
الساعة 12 منتصف الليل؟ جرعة ثانية.
الساعة 6 صباحًا؟ فحص دم جديد.
الساعة 9؟ مرور الطبيب.
لا صباح في الطوارئ، لا عيد، لا فطور، لا جمعة أهل.
هناك فقط ضوء أبيض بارد، وعينان مفتوحتان تنتظران أن ينخفض مقياس الحرارة، أن يرتفع عدد الصفائح، أن يُفتح سريرٌ في جناح التنويم… أو أن يُفتح لك باب الخروج.
…وهكذا، مرّ كل شيء.
لكنّي خرجت.
قبل العيد بيوم، خرجت… على مسؤوليتي.
لم يكن القرار سهلاً، ولا الوضع مطمئنًا تمامًا، لكنني كنت أحتاج أن أعود، أن أكون في بيتي، حتى لو كان الثمن أن أعيش العيد محاصرًا داخل جدران أربعة، لا أستقبل أحدًا، لا أزور أحدًا، ولا أفتح الأبواب إلا للضوء.
قضيت العيد مع زوجتي وولدي فقط.
لا أصوات ضيوف، لا قهوة تُقدّم، لا رسائل “وين بنفطر أول يوم؟”،
كان العيد هادئًا، بسيطًا، لا يشبه الأعياد السابقة… لكنه كان كافيًا.
كافٍ أنني أتنفس.
كافٍ أنني أنظر في وجه ابني وأقول له “عيدك مبارك”، دون أن يكون بيننا سرير أبيض.
كافٍ أن أرى يد زوجتي، لا من خلف قفاز، ولا عبر شاشة، بل حقيقية، دافئة، وقريبة.
نعم…
لم يكن عيدًا كما نعرفه، لكنه كان عيدًا من نوع آخر.
عيدًا فيه امتنان، فيه بقايا تعب، فيه أثر معركة… لكنه أيضًا مليء بلطف الله.
الحمد لله الذي لا ينسى، ولا يخذل، ولا يغيب.
الحمد لله أنني كنت هناك… وعدت.