مكالمة واحدة… لا تشبه أي مكالمة أخرى

مكالمة واحدة… لا تشبه أي مكالمة أخرى

الساعة 07:38 مساءً.

الوقت الذي لم يعد مجرد وقت. اللحظة التي لا تُحسب بالدقائق، بل تُقاس بالألم الذي زرعته داخلي.

رن الهاتف.

صوت مألوف، لكنه في هذه المرة حمل معه وزن العالم. لم يكن مجرد اتصال، بل كان بابًا يُفتح على شيء لم أكن مستعدًا له، شيء يشبه أن تسير في طريق مألوف، وفجأة ينهار كل شيء تحت قدميك، دون إنذار، دون مقدمة، دون فرصة حتى لالتقاط أنفاسك.

“ألو… عبد الرحمن؟ عندك لحظة؟”

كان بإمكاني أن أقول “لا”.
كان بإمكاني أن أؤجل هذه المكالمة.
لكن هل كان ذلك سيُغيّر أي شيء؟

“نتائج التحاليل ظهرت… هناك اشتباه قوي بوجود…”

لا أدري كيف أكمل الجملة، أو كيف سمعتها أصلًا. كأن الصوت أصبح بعيدًا، كأن العالم بدأ يتقلص، كأن شيئًا داخلي بدأ ينكسر ببطء، لكن بصوت لم يسمعه أحد سواي.

ثم، ودون وعي، خرجت مني الجملة التي ستبقى محفورة في داخلي للأبد:

“هل سأعيش، دكتور؟”


حين ينكسر شيء بداخلك… ولا يعود كما كان

كان يتحدث، يشرح، يضع احتمالات، لكنني لم أعد هناك.

هناك كلمات تُقال فتمرّ، وهناك كلمات تُغرس في داخلك كخنجر، وتبقى هناك، تتردد، تعيد تشكيلك من جديد.

كيف يعيش الإنسان وهو لا يعلم كيف سيكون الغد؟
كيف تنظر في وجه من تحب وأنت تحمل في داخلك هذا الخبر؟
كيف تتظاهر أن كل شيء بخير، بينما في داخلك عاصفة لا تهدأ؟

كان يمكنني الصمت، كان يمكنني أن أتجاهل، كان يمكنني أن أدعي القوة، لكن الحقيقة كانت أقوى مني، كانت أثقل من أن تُحمل، وأقسى من أن تُقال.

أغلقت الهاتف… وبقيت هناك. لا أدري كم مضى من الوقت. هل مرت دقائق؟ ساعات؟ لا فرق.

العالم كما هو… وأنا لم أعد كما كنت

نظرت حولي، كانت الأشياء في مكانها، لم يتحرك شيء، لم ينهار السقف، لم تنطفئ الأضواء، لم يتوقف الناس عن المشي في الشوارع، لم تتوقف الحياة عن الدوران…

لكنني أنا، لم أعد نفس الشخص الذي كان هنا قبل المكالمة.

كيف يمكن لحياة بأكملها أن تتغير في لحظة؟
كيف يمكن لجملة واحدة أن تُعيد تشكيلك بالكامل؟

هناك شيء داخل الإنسان ينكسر عند سماع أخبار كهذه، شيء لا يُصلحه الزمن، لا تُجبره الكلمات، شيء يبقى هناك، حتى لو ضحكت، حتى لو عدت للحياة، حتى لو حاولت أن تنسى… يبقى جزء منك في تلك اللحظة، عالقًا هناك، لا يتقدم ولا يتراجع.


حين يصبح عليك أن تخبر من تحب… أم تخفي عنهم؟

خرجت من الغرفة، مشيت بلا هدف، بلا إحساس، بلا وعي حقيقي.

جلست أمام زوجتي، كانت تنظر إليّ، ربما شعرت بشيء، ربما رأت في وجهي أن هناك شيئًا ثقيلًا جدًا لم أعد أستطيع حمله وحدي.

“إيش قال الدكتور؟”

كيف تُخبر من تحب أن هناك حربًا بدأت، وأنك في وسطها الآن؟
كيف تضع هذا الحمل على قلبها دون أن ينكسر؟
كيف تنظر في عينيها وأنت تحمل معها الألم الذي لم تطلبه، لكنها ستعيشه معك؟

“قال إنّي أحتاجك تكوني قوية، إحنا مع بعض، وبإذن الله نعديها.”

قالتها عيني، قبل أن ينطق بها صوتي، لكن حتى أنا لم أصدقها.


لكن أمي… كيف أخبرها؟

أمام والديّ، توقفت كل الكلمات.

هل أخبرهم؟
كيف أخبرهم؟
هل أصمت؟
هل أتحمل هذا الألم وحدي؟

أمي التي كانت تنظر إليّ كل يوم بقلق، كانت تسألني كل ليلة إن كنت بخير، كانت تراقب تعبي بصمت لكنها لم تكن تعرف الحقيقة. كيف أخبرها؟ كيف أقول لها شيئًا أعرف أنه سيحرقها؟

رأيت أمامي كل الاحتمالات:

• إن أخبرتهم، سأُشاهد نظرات الألم في عيونهم، سأرى أمي تنهار أمامي، سأسمع صوت والدي يختنق بين كلماته.
• إن أخفيت الأمر، كيف سأبرر الأيام القادمة؟ كيف سأخفي التغيرات؟ كيف سأتحمل هذا الحمل وحدي؟

كان الخيار بين ألم الإفصاح، وألم الكتمان… وكلاهما كان قاتلًا.

في النهاية، كان لا بد أن يعرفوا.

اتصلت بوالدي.

“بابا، الحمد لله على كل حال…”

لم أكن أحتاج أن أكمل، هو يعرفني. يعرف من نبرة صوتي أن هناك ما هو أكبر من أن يُقال، وأثقل من أن يُنطق.

ثم… الصمت. الصمت الذي لم يكن مجرد غياب للكلمات، بل كان الفراغ الذي يسبق السقوط.


لكنني لم أكن وحدي… أبدًا

في تلك اللحظة، وسط كل الفوضى، وسط الألم الذي لا يشبه أي ألم آخر، وسط الخوف الذي كان يسري في عروقي كأنه جزء مني… كنت أبحث عن شيء واحد.

كنت أبحث عن الله.

“إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.”

لم أكن وحدي، كنت أشعر بذلك رغم كل شيء.

كل شيء بدا أسودًا، لكن في الخلفية، كان هناك نور… كان هناك رحمة، كانت هناك يد خفية تمنعني من السقوط، رغم أنني كنت أشعر أنني فقدت القدرة على الوقوف.

اليوم، بعد كل شيء، بعد كل الأيام التي مرت، بعد كل الليالي التي ظننت أنها لن تنتهي، بعد كل لحظة خوف، بعد كل مرة نظرت فيها في المرآة ولم أتعرف على الشخص الذي أراه… أدركت شيئًا واحدًا:

قد تتغير الحياة في لحظة، لكن الله لا يتغير.

قد تهتز الأرض تحت قدميك، لكن هناك يد تمسك بك، حتى لو لم تراها.

“ليس الألم هو ما يهزمنا، بل أن ننسى أن الله معنا وسط الألم.”