حين تصبح للحياة ثلاث وجوه: ما قبل، وما كان، وما بعد

في يومٍ عادي، قد يمرّ عليك شعور بالملل أو الضيق، وقد تُردّد بينك وبين نفسك: “الحياة رتيبة، أحتاج إلى شيء مختلف”. لكن لم يخطر ببالك قط أن “المختلف” قد يكون لحظة واحدة تُقلب كل شيء رأسًا على عقب، لحظة تفصل حياتك إلى حقبتين: ما قبل… وما بعد.
1) ما قبل العاصفة: حين كنت تظن أنك تعيش كل شيء
كانت لديّ خطط، آمال، مواعيد في التقويم، مشاريع صغيرة أهيّئ لها الوقت، وضحكات كبيرة أُهدرها مع من أحب. كنت أظن أن الأيام واسعة بما يكفي لكي أؤجّل أحلامي وأحقّقها بالتدريج، وأؤجّل مشاعري لأعيشها لاحقًا.
لم أكن أدرك أنني أعيش في فقاعة وهم الأمان. كنت أظن أن الصحّة، والوقت، والأحلام… أشياء ثابتة لا تتحرك إلّا بأمري. ووسط هذه الطمأنينة المزيّفة، لم أتوقّع مطلقًا أنّ مكالمة واحدة، أو تحليلًا طبيًّا، أو نظرة قلق في عين طبيب… يمكنها أن تمحو كل معالم الاستقرار التي كنت أراها واضحة.
2) ما كان: اللحظة التي يضيق فيها العالم
تخيّل نفسك في ممرّ مستشفى طويل، تطغى رائحة المعقمات على الهواء، الأصوات خافتة لكن في داخلك ضجيجًا يُفجّر كل صمت. في يدك ورقة تحاليل أو تشخيص قادم، وفي قلبك خوف يكاد يُسقطك أرضًا. تستدير متوترًا، فتحاول طمأنة من حولك بابتسامة متكلّفة، لكنك تخدع نفسك قبل أن تخدعهم.
تدخل غرفة التنويم كأنّك تودّع العالم الذي كنت تعرفه. جدران بيضاء، سرير بارد، وأسئلة لا تنتهي في عقلك: “كيف حدث هذا؟ لماذا أنا؟ هل أستحقّ كل هذا؟ متى ينتهي؟ بل… هل ينتهي أصلًا؟”
ترى في عيون أهلك محاولاتهم لإخفاء فزعهم، تسمع دعواتهم بالشفاء، تلمس أيديهم الممسكة بيدك في كل لحظة، لكنك رغم ذلك تشعر أنك وحيد في معركة تدور رحاها داخلك. عندما يختفي الجميع في الليل، تبقى أنت والسقف… والأسئلة الكبيرة التي تؤرقك حتى الفجر.
أما الألم؟ يتسلل إلى تفاصيلك: جرعات دواء ثقيلة، وخز إبر لا يتوقف، تحاليل تُثقلك، ودموع تحاول تجنّبها أمام الآخرين كي لا تُضعفهم. تمضي الليالي بطيئة، تتأرجح بين الاستسلام والرجاء، بين الجزع والاقتناع أن الله أرحم مما تتخيل.
عندها تدرك أن الحياة ليست كما كنت تظن، وأنَّ ما كنت تسميه “تعبًا” أو “مللًا” كان مجرد نزهة في حديقة مقارنةً بما تواجهه الآن.
3) ما بعد: العودة التي لا تعني أنك عدت كما كنت
ثم يأتي اليوم الموعود. تسمع الطبيب يقول: “نتائجك أفضل، بإمكانك العودة إلى البيت قريبًا.” للوهلة الأولى، ينبض قلبك فرحًا، تشعر أن الحياة فتحت لك ذراعيها مجددًا، وتتخيل أنك سترجع لكّل ما كنت عليه قبل المرض.
لكن حالما تخطو خارج المستشفى، تدرك أن العالم استمرّ في دورانه… وأنت توقفت هناك في غرفة التنويم. تشعر أنك غريب في واقعك السابق، كأنك تبحث عن نفسك القديمة ولا تجدها. تحاول أن تضحك مع أصدقائك بالحرارة نفسها، فتُفاجأ بأن ضحكتك خافتة، وأن كلماتك مقننة، وأنك لم تعد تستسيغ المزاح البسيط كما كنت من قبل.
قد يبدو أنك “بخير” من الخارج: بشرتك استعادت ألوانها، خطواتك استعادت بعض الثبات، وأهلك يبتسمون بارتياح لأنهم يظنون أنك تعافيت. لكنك تعرف في داخلك أن جرحًا لا يزال ينزف بصمت، وأن جزءًا منك تركته خلف تلك الجدران البيضاء.
• صرت تخاف من المستقبل، ليس لأنه مجهول، بل لأنه ممكن أن ينقلب في أي لحظة.
• صرت تقدّر اللحظات الصغيرة، لكنك أيضًا تفزع من فكرة فقدانها.
• أصبحت تدرك أن وقتك على الأرض أضعف مما كنت تصدّق، وأن كل ضحكة، كل وجبة، كل لقاء… قد يكون الأخير بطريقة لا تستطيع التنبؤ بها.
تجلس مع نفسك في وقت متأخر من الليل، تسأل:
“هل أتظاهر أنني كما كنت؟ أم أعترف لنفسي أنني تغيّرت وأن عليّ أن أتعلم كيف أعيش الآن؟”
تلك الأسئلة قد لا تجد لها إجابات واضحة، لكنها تصبح صديقتك الجديدة، ترافقك كلما غابت الشمس، وتذكّرك بأنّك لم تعد ذلك الشخص الذي كان ينام مطمئنًا على خطط لأسابيع وأشهر مقبلة.
الضوء الذي ينبعث من القلب الذي ذاق الظلام
مع الوقت، تكتشف شيئًا مثيرًا للدهشة: رغم المخاوف التي تسكنك، ورغم أن حياتك لم تعد كما كانت، هناك نورٌ ما في أعماقك لم ينطفئ. نور يوقظك كل صباح ويقول لك: “ما زالت الحياة تستحق أن تُعاش، ما زالت الفرصة قائمة لتبتسم، لتحب، لتجرّب، حتى لو كان كل شيء هشًا.”
تدرك أن المرض أو الأزمة التي هزتك كانت طريقًا لشكل آخر من الإدراك، شكل يجعل نظرتك لكل لحظة أثمن، ولكل بسمة أعمق، ولكل عناق أكثر صدقًا. ولم تعد ترى في أيامي القادمات مجرد أيام مضمونة، بل هدايا مؤقتة عليك أن تمسك بها بكل ما أوتيت من حب.
نعم، قد تعود الآلام، وقد تُفاجئك العاصفة من جديد، لكن هذه المرة تعرف أنك أقوى مما تخيلت. تعرف أنك إن سقطت مائة مرة، ستنهض في المرة الأولى بعد المائة. تعرف أن الفزع الذي كنت تشعر به صار الآن خبزك اليومي، وأنك لم تعد تخشاه كما كنت تخشاه أول مرة.
ليست العودة سهلة، وليست هينة، لكنك تعود بوجه مختلف، بقلب يحمل ندوبًا أليمة، وبعيون تبصر الأمور بطريقة لم يعشها من قبل إلا من ذاقوا النار وخرجوا منها.
ختامًا
الحياة ما قبل المرض، وما كان أثناءه، وما بعده… ليست ثلاث قصص منفصلة، بل هي حكاية واحدة لشخص واحد اكتشف في لحظة ضعفه أنه أقوى مما كان يتصور.
قد لا تشعر أنك استعدت نسختك القديمة، وربما لا ترغب بذلك أصلًا. لكنك تدرك اليوم أن كل نبضة في قلبك تستحق أن تُشكر عليها، وأن كل لحظة تقضيها مع من تحب ليست تفصيلًا عابرًا، بل كنزًا عليك أن تحافظ عليه.
“ما عاد شيء مؤكد، لكن هذا وحده جعل كل لحظة ثمينة.”
ليس تشاؤمًا أن تعرف هشاشة الأيام، بل واقعية تمنحك الفرصة لأن تحياها بمذاق مختلف… مذاق من يعرف أن العمر قصير، لكنه كافٍ ليجعلنا نحب أكثر، ونفرح بقوة، ونبكي بصدق، ونمضي وفي قلوبنا يقينٌ بأن كل ما نملكه اليوم قد لا يتكرر غدًا.