عندما يرن الهاتف… وتبدأ العزلة من جديد
الخميس، الساعة 06:00 مساءً.
كنت أعيش يومًا عاديًا… أو على الأقل كنت أحاول إقناع نفسي بذلك. ثم جاء الاتصال.
🔊 “ألو… عبد الرحمن؟ عندك تنويم، تعال للمستشفى يوم السبت بالليل لمكتب التنويم.”
مكالمة باردة، خالية من المشاعر، تُلقى عليَّ كأنها مجرد إجراء روتيني. لكنها ليست كذلك.
أنا أعرف هذا الاتصال جيدًا. أعرفه أكثر مما ينبغي.
المرة الأولى كان مثل صفعة، الثانية كان مثل ارتطام مؤلم، الثالثة كان كأنها الأولى من جديد… لكن هذه المرة؟ لم يعد الأمر مفاجئًا، لكنه أيضًا لم يصبح سهلًا. لا شيء يجعل هذا سهلًا.
أغلقت الهاتف. حدّقت للحظات في الشاشة، وكأنني أحتاج وقتًا لأستوعب الكلمات التي سمعتها للتو، وكأنني كنت أريد أن أوقف الزمن قبل أن أصل إلى السبت. لكن السبت سيأتي، وسأذهب. سأذهب لأنني لا أملك خيارًا آخر.
الساعات الأخيرة قبل الرحيل المؤقت
في اليومين التي تسبق التنويم، كل شيء يصبح ضبابيًا.
تحاول أن تستمتع بالوقت المتبقي، لكنك لا تستطيع. كيف تستمتع وأنت تعرف أنك ستُسحب من حياتك قريبًا؟
• أنظر إلى ابني، أضحك معه، لكن هناك صوت في رأسي يقول: “كم سيمضي قبل أن أراه من جديد؟”
• أتحدث مع زوجتي، لكن الحديث يبدو وكأنه رسالة وداع غير معلنة.
• حتى النوم يصبح معقدًا، لا أريد أن أنام، لأنني أعرف أنني عندما أستيقظ، سأكون أقرب إلى الرحيل.
الوقت يمضي، لكنه يمضي على طريقتي الخاصة. لم أعد أقيسه بالساعات، بل بالأفكار التي تتسابق في رأسي، وباللحظات الصغيرة التي أحاول سرقتها قبل أن أذهب.
ثم يأتي مساء السبت… ولا يبقى سوى المشوار الأخير.
الطريق إلى التنويم…
كل رحلة إلى المستشفى تبدو وكأنها الأولى.
حتى وأنا في السيارة متجهًا إلى هناك، يداي على المقود، عيناي على الطريق، لكن عقلي في مكان آخر.
• المدينة تمضي كالمعتاد، الناس تخرج، تتنزه، تضحك، وكأن العالم لا يدرك أنني في طريقي إلى العزلة من جديد.
• أرى الإشارات الحمراء، المارة، المباني… أشياء كنت أراها كل يوم، لكنها اليوم تحمل معنى مختلفًا، كأنني أراها للمرة الأخيرة قبل أن أُسحب إلى ذلك العالم البارد.
• كلما اقتربت من المستشفى، كلما شعرت أن المسافة تضيق، وكأنها تُغلق عليّ شيئًا فشيئًا.
ثم أصل… أوقف السيارة، أتنفس ببطء، أنظر إلى باب المستشفى للحظات، وكأنني أستعد لدخول عالم آخر. ثم أمضي، لأنني يجب أن أمضي.
سرير أبيض… وحدة باردة… وضوضاء بلا معنى
عند دخول المستشفى، كل شيء يتحوّل.
الناس ليسوا أناسًا عاديين بعد الآن، بل يصبحون أشباحًا بملابس بيضاء وزرقاء، يسمّون “ممرضين”، “أطباء”، “فنيين”. الجميع يمر، الجميع يراقب، الجميع يسأل نفس الأسئلة المكررة:
🩺 “كيف تشعر اليوم؟”
💉 “جاهز للجرعة؟”
📋 “هل لديك أي أعراض جديدة؟”
لكن لا أحد يسأل:
🗨 “هل ما زلت تشعر أنك إنسان؟ هل ما زلت تتذكر كيف تبدو الحياة خارج هذه الجدران؟”
في المستشفى، كل شيء يُصبح ميكانيكيًا.
• لا يوجد ليل حقيقي ولا نهار حقيقي، فقط إضاءة باردة تُبقيك مستيقظًا أكثر مما يجب.
• لا يوجد صوت مألوف، فقط ضوضاء الأجهزة التي تذكّرك بأنك مريض، مريض، مريض.
• لا يوجد وقت يُحسب بالدقائق، فقط جرعات وأدوية وتحاليل تحدد متى تتحرك، متى تأكل، متى تُغادر الغرفة.
لكنني لم أعد كما كنت
هذه ليست المرة الأولى، وبإذن الله الاخيرة وانا بخير وصحة وعافية يارب. لكنني لست نفس الشخص الذي دخل هذا المكان أول مرة.
في البداية، كان كل شيء مرعبًا، غامضًا، يملؤه القلق من المجهول. اليوم؟ لا يزال الأمر مزعجًا، لا يزال ثقيلًا، لكنه لم يعد يملكني كما كان.
لقد مررت بهذا من قبل، وخرجت. وعندما خرجت، لم أكن كما كنت، خرجت أقوى، أكثر صلابة، أكثر فهمًا لنفسي، أكثر معرفة بما يمكنني احتماله وما يمكنني تجاوزه.
اليوم، أنا أعرف أنني لست مجرد مريض على سرير أبيض، لست مجرد حالة في ملف طبي، لست مجرد شخص ينتظر.
أنا هنا، لكنني أيضًا ما زلت هناك… في عالمي، في حياتي، في تفاصيل الأيام التي لن يسرقها هذا التنويم مني.
مهما طال الوقت، مهما كانت التفاصيل، هناك شيء واحد مؤكد: سأعود، كما فعلت في كل مرة.
“كل شيء يمر. كل ليلة طويلة تنتهي بصباح. كل عزل مؤقت ينتهي بعودة. لا شيء يستمر، لا الألم، لا العزلة، لا الخوف. وهذا وحده يكفي.
ولكن… هل أنا نفس الشخص بعد كل هذا؟ لا أعلم.”